فصل: تفسير الآيات رقم (1- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك‏}‏ بأبلغ ما يكون من الكذب من الإِفك، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها‏.‏ وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحداً فجلست كي يرجع إليها منشد، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به‏.‏ ‏{‏عُصْبَةٌ مّنْكُمْ‏}‏ جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة، يريد عبد الله بن أبي، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وهي خبر إن وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ‏}‏ مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإِفك‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيراً‏.‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم‏}‏ لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصاً به‏.‏ ‏{‏والذي تولى كِبْرَهُ‏}‏ معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به ‏{‏والذي‏}‏ بمعنى الذين‏.‏ ‏{‏لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطروداً مشهوراً بالنفاق، وحسان أعمى أشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر‏.‏

‏{‏لَّوْلاَ‏}‏ هلا‏.‏ ‏{‏إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً‏}‏ بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإِيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم‏.‏ وإنما جاز الفصل بين ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ‏}‏ كما يقول المستيقن المطلع على الحال‏.‏

‏{‏لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون‏}‏ من جملة المقول تقريراً لكونه كذباً فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه، ولذلك رتب الحد عليه‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والأخرة‏}‏ لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره، والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإِمهال للتوبة ‏{‏وَرَحْمَتُهُ‏}‏ في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم‏.‏ ‏{‏لَمَسَّكُمْ‏}‏ عاجلاً‏.‏ ‏{‏فِيمَا أَفَضْتُمْ‏}‏ خضتم‏.‏ ‏{‏فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ يستحقر دونه اللوم والجلد‏.‏

‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف ‏{‏لَمَسَّكُمْ‏}‏ أو ‏{‏أَفَضْتُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه، قرئ «تتلقونه» على الأصل و‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ من لقيه إذا لقفه و‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ بكسر حرف المضارعة و‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ من إلقائه بعضهم على بعض، و‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ و«تألقونه» من الألق والألق وهو الكذب، و«تثقفونه» من ثقفته إذا طلبته فوجدته و«تقفونه» أي تتبعونه‏.‏ ‏{‏وَتَقُولُونَ بأفواهكم‏}‏ أي وتقولون كلاماً مختصاً بالأفواه بلا مساعدة من القلوب‏.‏ ‏{‏مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ لأنه ليس تعبيراً عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً‏}‏ سهلاً لا تبعة له‏.‏ ‏{‏وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ‏}‏ في الوزر واستجرار العذاب، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم، تلقي الإِفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم‏.‏

‏{‏وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا‏}‏ ما ينبغي وما يصح لنا‏.‏ ‏{‏أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا‏}‏ يجوز أن تكون الإِشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعاً فضلاً عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ تعجب من ذلك الإِفك أو ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيهاً لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريراً لما قبله وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏هذا بهتان عَظِيمٌ‏}‏ لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها‏.‏

‏{‏يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ‏}‏ كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا‏.‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ ما دمتم أحياء مكلفين‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فإِن الإِيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع‏.‏

‏{‏وَيُبَيّنُ لَكُمُ الأيات‏}‏ الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بالأحوال كلها‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ في تدابره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ‏}‏ يريدون‏.‏ ‏{‏أَن تَشِيعَ‏}‏ أن تنتشر‏.‏ ‏{‏الفاحشة فِي الذين ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا والأخرة‏}‏ بالحد والسعير إلى غير ذلك‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما في الضمائر‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإِشاعة‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ بإشاعة الفاحشة، وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة بسكونها‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر‏}‏ بيان لعلة النهي عن اتباعه، و«الفحشاء» ما أفرط قبحه، و«المنكر» ما أنكره الشرع‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها ‏{‏مَا زَكَى‏}‏ ما طهر من دنسها‏.‏ ‏{‏مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً‏}‏ آخر الدهر‏.‏ ‏{‏ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاء‏}‏ بحمله على التوبة وقبولها‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لمقالهم‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنياتهم‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ‏}‏ ولا يحلف افتعال من الألية، أو ولا يقصر من الألو، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا «يتأل»‏.‏ وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين‏.‏ ‏{‏أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ‏}‏ في الدين‏.‏ ‏{‏والسعة‏}‏ في المال‏.‏ وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه‏.‏ ‏{‏أَن يُؤْتُواْ‏}‏ على أن لا ‏{‏يُؤْتُواْ‏}‏، أو في ‏{‏أَن يُؤْتُواْ‏}‏‏.‏ وقرئ بالتاء على الالتفات‏.‏ ‏{‏أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله‏}‏ صفات لموصوف واحد، أي ناساً جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك، أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود‏.‏ ‏{‏وَلْيَعْفُواْ‏}‏ عما فرط منهم‏.‏ ‏{‏وَلْيَصْفَحُواْ‏}‏ بالإِغماض عنه‏.‏ ‏{‏أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏}‏ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه ‏"‏ روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته ‏"‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏ العفائف‏.‏ ‏{‏الغافلات‏}‏ عما قذفن به‏.‏ ‏{‏المؤمنات‏}‏ بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعناً في الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين كابن أبي‏.‏ ‏{‏لُعِنُواْ فِي الدنيا والأخرة‏}‏ لما طعنوا فيهن‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ لعظم ذنوبهم، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لا توبة له، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف، وقرأ حمزة والكسائي بالياء للتقدم والفصل‏.‏ ‏{‏أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم، أو بظهوره آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق‏}‏ جزاءهم المستحق‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُونَ‏}‏ لمعاينتهم الأمر‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله هُوَ الحق المبين‏}‏ الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 35‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات‏}‏ أي الخبائث يتزوجن الخباث وبالعكس وكذلك أهل الطيب فيكون كالدليل على قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ يعني أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم‏.‏ ‏{‏مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام ولم يقرر عليها، وقيل ‏{‏الخبيثات‏}‏ ‏{‏والطيبات‏}‏ من الأقوال والإِشارة إلى ‏{‏الطيبين‏}‏ والضمير في ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ للآفكين، أي مبرؤون مما يقولون فيهم أو ‏{‏لِلْخَبِيثِينَ‏}‏ و‏{‏الخبيثات‏}‏ أي مبرؤون من أن يقولوا مثل قولهم‏.‏ ‏{‏لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ يعني الجنة، ولقد برأ الله أربعة بأربعة‏:‏ برأ يوسف عليه الصلاة والسلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات الكريمة مع هذه المبالغة، وما ذلك إلا لإِظهار منصب الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏ التي لا تسكنونها فإن الآجر والمعير أيضاً لا يدخلان إلا بإذن‏.‏ ‏{‏حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ تستأذنوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا له استأنس، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس‏.‏ ‏{‏وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا‏}‏ بأن تقولوا السلام عليكم أأدخل‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام «التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع» ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال‏:‏ حييتم صباحاً أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف‏.‏ وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم «أأستأذن على أمي، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت، قال‏:‏ أتحب أن تراها عريانة، قالا‏:‏ لا، قال‏:‏ فاستأذن» ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم‏.‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً‏}‏ يأذن لكم‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ‏}‏ حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط بل وعلى ما يخفيه الناس عادة مع أن التصرف في ملك الغير بغير إذنه محظور، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق أو كان فيه منكر ونحوها‏.‏

‏{‏وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا‏}‏ ولا تلحوا‏.‏ ‏{‏هُوَ أزكى لَكُمْ‏}‏ الرجوع أطهر لكم عما لا يخلو الإِلحاح والوقوف على الباب عنه من الكراهة وترك المروءة، أو أنفع لدينكم ودنياكم‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه‏.‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏}‏ كالربط والحوانيت والخانات والخانقات‏.‏ ‏{‏فِيهَا مَتَاعٌ‏}‏ استمتاع‏.‏ ‏{‏لَكُمْ‏}‏ كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ وعيد لمن دخل مدخلاً لفساد أو تطلع على عورات‏.‏

‏{‏قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم‏}‏ أي ما يكون نحو محرم‏.‏ ‏{‏وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ‏}‏ إلا على أزواجهن أو ما ملكت أيمانهم، ولما كان المستثنى منه كالشاذ النادر بخلاف الغض أطلقه وقيد الغض بحرف التبعيض، وقيل حفظ الفروج ها هنا خاصة سترها‏.‏ ‏{‏ذلك أزكى لَهُمْ‏}‏ أنفع لهم أو أطهر لما فيه من البعد عن الريبة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏ لا يخفى عليه إجالة أبصارهم واستعمال سائر حواسهم وتحريك جوارحهم وما يقصدون بها، فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون‏.‏

‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن‏}‏ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال‏.‏ ‏{‏وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ بالتستر أو التحفظ عن الزنا، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجاً، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتَحَمُّلِ الشهادة‏.‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ‏}‏ ستراً لأعناقهن‏.‏ وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ كرره لبيان من يحل له الإِبداء ومن لا يحل له‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ‏}‏ فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره‏.‏ ‏{‏أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن‏}‏ لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإِخوان لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف‏.‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏ يعم الإِماء والعبيد، لما روي

‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ‏"‏ وقيل المراد بها‏.‏ الإِماء وعبد المرأة كالأجنبي منها‏.‏ ‏{‏أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال‏}‏ أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون، وفي المجبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النساء، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال‏.‏ ‏{‏أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء‏}‏ لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏}‏ ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت‏.‏ ‏{‏وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون‏}‏ إذ لا يكاد يخلوا أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه، في الجاهلية فإنه وإن جب بالإِسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» وفي «الزخرف» ‏{‏يا أَيُّهَ الساحر‏}‏ وفي «الرحمن» ‏{‏أَيُّهَ الثقلان‏}‏ بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف، ووقف الباقون بغير الألف‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ بسعادة الدارين‏.‏

‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ‏}‏ لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى، و«أيامى» مقلوب أيايم كيتامى، جمع أيم وهو العزب ذكراً كان أو أنثى بكراً كان أو ثيباً قال‏:‏

فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكح وَإِنْ تَتَأْيَّمِي *** وَإِنْ كُنْت أَفْتى مِنْكُم أَتَأَيَّم

وتخصيص ‏{‏الصالحين‏}‏ لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، ‏{‏إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ رد لما عسى يمنع من النكاح، والمعنى لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، أو وعد من الله بالإِغناء لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اطلبوا الغنى في هذه الآية ‏"‏ لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء‏}‏

‏{‏والله واسع‏}‏ ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته‏.‏

‏{‏وَلْيَسْتَغفِفِ‏}‏ وليجتهد في العفة وقمع الشهوة‏.‏ ‏{‏الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً‏}‏ أسبابه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه‏.‏ ‏{‏حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ فيجدوا ما يتزوجون به‏.‏ ‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب‏}‏ المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجماً بنجوم يضم بعضها إلى بعض‏.‏ ‏{‏مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ عبداً كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل‏.‏ ‏{‏إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏ أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف، وقد روي مثله مرفوعاً‏.‏ وقيل صلاحاً في الدين‏.‏ وقيل مالاً وضعفه ظاهر لفظاً ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز‏.‏ ‏{‏وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِى ءَاتَاكُمْ‏}‏ أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئاً من أموالهم، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول‏.‏ وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنياً، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم‏}‏ إماءكم‏.‏ ‏{‏عَلَى البغاء‏}‏ على الزنا، كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت‏.‏ ‏{‏إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ تعففاً شرط للإِكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطاً للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإِكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإِماء كالشاذ النادر‏.‏ ‏{‏لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي لهن أوله إن تاب، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإِكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات‏}‏ يعني الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالكسر في هذا وفي «الطلاق» لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول المستقيمة من بين بمعنى تبين، أو لأنها بينت الأحكام والحدود‏.‏ ‏{‏وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ أو ومثلاً من أمثال من قبلكم أي وقصة عجيبة مثل قصصهم، وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها كقصة يوسف ومريم‏.‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ يعني ما وعظ به في تلك الآيات، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها، وقيل المراد بالآيات القرآن والصفات المذكورة صفاته‏.‏

‏{‏الله نُورُ السموات والأرض‏}‏ النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك‏:‏ زيد كرم بمعنى ذو كرم، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء‏.‏ أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير‏:‏ نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور‏.‏ أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه‏.‏ أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإِدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكاً فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل، ثم إن هذه الإِدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى إبتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنواراً، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالها على الأنوار، الحسية والعقلية وقصور الإِدراكات عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما‏.‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ صفة نوره العجيبة الشأن، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره‏.‏ ‏{‏كَمِشْكَاةٍ‏}‏ كصفة مشكاة، وهي الكوة الغير النافذة‏.‏ وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإِمالة‏.‏ ‏{‏فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏ سراج ضخم ثاقب، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة‏.‏ ‏{‏المصباح فِى زُجَاجَةٍ‏}‏ في قنديل من الزجاج‏.‏ ‏{‏الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ‏}‏ مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدرء أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو بعض ضوئه بعضاً من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل، وقراءة أبي عمرو والكسائي «درئ» كشريب وقد قرئ به مقلوباً‏.‏

‏{‏يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ‏}‏ أي إبتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى ‏{‏الزجاجة‏}‏ بحذف المضاف، وقرئ «توقد» من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب‏.‏ ‏{‏لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏ تقع الشمس عليها حيناً بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها أو في مفيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً وفي الحديث ‏"‏ لا خير في شجرة ولا نبات في مفيأة ولا خير فيهما في مضحى ‏"‏ ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه‏.‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه، الأول‏:‏ أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، ويؤيده قراءة أبي‏:‏ «مثل نور المؤمن»، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي‏:‏ الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي‏:‏ «المشكاة»، و«الزجاجة»، و«المصباح»، و«الشجرة»، و«الزيت»، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لإِضاءتها بالإِدراكات الكلية والمعارف الإِلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإِلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور‏.‏

‏{‏يَهْدِي الله لِنُورِهِ‏}‏ لهذا النور الثاقب‏.‏ ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها‏.‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ‏}‏ إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً‏.‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها وإن لم يكترث بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 50‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ‏}‏ متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها‏.‏ وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم‏.‏ ‏{‏أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ‏}‏ بالبناء أو التعظيم‏.‏ ‏{‏وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه‏}‏ عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال‏}‏ ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرئ «والايصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرئ تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو‏.‏

‏{‏رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة‏}‏ لا تشغلهم معاملة رابحة‏.‏ ‏{‏وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله‏}‏ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار‏.‏ ‏{‏وَإِقَامِ الصلاة‏}‏ عوض فيه الإِضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإِعلال كقوله‏:‏

وَأَخْلَفُوكَ عد الأَمرِ الَّذِي وَعَدُوا *** ‏{‏وَإِيتَاء الزكواة‏}‏ ما يجب إخراجه من المال للمستحقين‏.‏ ‏{‏يخافون يَوْماً‏}‏ مع ما هم عليه من الذكر والطاعة‏.‏ ‏{‏تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار‏}‏ تضطرب وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم‏.‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله‏}‏ متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون‏.‏ ‏{‏أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة‏.‏ ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم‏.‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإِحسان‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ «بقيعات» كديمات في ديمة‏.‏

‏{‏يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً‏}‏ أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءَهُ‏}‏ جاء ما توهمه ماء أو موضعه‏.‏ ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏ مما ظنه‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَ الله عِندَهُ‏}‏ عقابه أو زبانيته أو وجده محاسباً إياه‏.‏ ‏{‏فوفاه حِسَابَهُ‏}‏ استعراضاً أو مجازاة‏.‏ ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لا يشغله حساب عن حساب‏.‏ روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإِسلام كفر‏.‏

‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ عطف على ‏{‏كَسَرَابٍ‏}‏ و‏{‏أَوْ‏}‏ للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة‏.‏ ‏{‏فِي بَحْرٍ لُّجّيّ‏}‏ ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء‏.‏ ‏{‏يغشاه‏}‏ يغشى البحر‏.‏ ‏{‏مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ‏}‏ أي أمواج مترادفة متراكمة‏.‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِ‏}‏ من فوق الموج الثاني‏.‏ ‏{‏سَحَابٌ‏}‏ غطى النجوم وحجب أنوارها، والجملة صفة أخرى لل ‏{‏بَحْرٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏ظلمات‏}‏ أي هذه ظلمات‏.‏ ‏{‏بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏ظلمات‏}‏ بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال ‏{‏سَحَابٌ‏}‏ إليها في رواية البزي‏.‏ ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ‏}‏ وهي أقرب ما يرى إليه‏.‏ ‏{‏لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ لم يقرب أن يراها فضلاً أن يراها كقول ذي الرمة‏:‏

إِذَا غَيَّرَ النَّأَي المُحِبِّينَ لَمْ يَكد *** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه‏.‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً‏}‏ ومن لم يقدر له الهداية‏.‏ لم يوفقه لأسبابها‏.‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ خلاف الموفق الذي له نور على نور‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ ألم تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السموات والأرض‏}‏ ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض، و‏{‏مِنْ‏}‏ لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال‏.‏ ‏{‏والطير‏}‏ على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله‏:‏ ‏{‏صافات‏}‏ فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره‏.‏ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ كل واحد مما ذكر أو من الطير‏.‏ ‏{‏قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختياراً أو طبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحاً كما ألهمها علوماً دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب‏.‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ مرجع الجميع‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً‏}‏ يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ‏}‏ بأن يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه، وقرأ نافع برواية ورش «يولف» غير مهموز‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً‏}‏ متراكماً بعضه فوق بعض‏.‏ ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ المطر‏.‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل، وقرئ من «خلله»‏.‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء‏}‏ من الغمام وكل ما علاك فهو سماء‏.‏ ‏{‏مِن جِبَالٍ فِيهَا‏}‏ من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها‏.‏ ‏{‏مِن بَرَدٍ‏}‏ بيان للجبال والمفعول محذوف أي ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ مبتدأ ‏{‏مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ‏}‏ برداً، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجاً وإِلا نزل برداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً‏.‏ ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عن مَن يَشَاء‏}‏ والضمير لل ‏{‏بَرَدٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ ضوء برقه، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و‏{‏بَرْقِهِ‏}‏ بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع‏.‏ ‏{‏يَذْهَبُ بالأبصار‏}‏ بأبصار الناظرين إليه من فرط الإِضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد، وقرئ ‏{‏يَذْهَبُ‏}‏ على زيادة الباء‏.‏

‏{‏يُقَلِّبُ الله اليل والنهار‏}‏ بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ فيما تقدم ذكره‏.‏ ‏{‏لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار‏}‏ لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة‏.‏

‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ‏}‏ حيوان يدب على الأرض‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «خالق كل دابة» بالإِضافة‏.‏ ‏{‏مِن مَّاء‏}‏ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة، وقيل ‏{‏مِن مَّاء‏}‏ متعلق ب ‏{‏دَابَّةٍ‏}‏ وليس بصلة ل ‏{‏خلقَ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ‏}‏ كالحية وإنما سمي الزحف مشياً على الاستعارة أو المشاكلة‏.‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ‏}‏ كالإِنس والطير‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ‏}‏ كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة‏.‏ ‏{‏يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء‏}‏ مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً ومركباً على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فيفعل ما يشاء‏.‏

‏{‏لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات‏}‏ للحقائق بأنواع الدلائل‏.‏ ‏{‏والله يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها‏.‏ ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ هو دين الإِسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة‏.‏

‏{‏وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول‏}‏ نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ أي وأطعناهما‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يتولى‏}‏ بالامتناع عن قبول حكمه‏.‏ ‏{‏فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك‏}‏ بعد قولهم هذا‏.‏ ‏{‏وَمَا أولئك بالمؤمنين‏}‏ إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاماً من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإِيمان والثابتون عليه‏.‏

‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الحاكم ظاهراً والمدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ فاجأ فريق منهم الإِعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه‏.‏

‏{‏وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق‏}‏ أي الحكم لا عليهم‏.‏ ‏{‏يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ‏}‏ منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ صلة ل ‏{‏يَأْتُواْ‏}‏ أو ل ‏{‏مُذْعِنِينَ‏}‏ وتقديمه للاختصاص‏.‏

‏{‏أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ كفر أو ميل إلى الظلم‏.‏ ‏{‏أَمِ ارتابوا‏}‏ بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك‏.‏ ‏{‏أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ في الحكومة‏.‏ ‏{‏بَلْ أولئك هُمُ الظالمون‏}‏ إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم فتعين الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً وكلاهما باطل، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى الله عليه وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 61‏]‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، وقرئ ‏{‏قَوْلَ‏}‏ بالرفع و‏{‏لِيَحْكُمَ‏}‏ على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم‏.‏

‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن‏.‏ ‏{‏وَيَخْشَ الله‏}‏ على ما صدر عنه من الذنوب‏.‏ ‏{‏وَيَتَّقْهِ‏}‏ فيما بقي من عمره، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق‏.‏ ‏{‏فأولئك هُمُ الفائزون‏}‏ بالنعيم المقيم‏.‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ إنكار للامتناع عن حكمه‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ‏}‏ الخروج عن ديارهم وأموالهم‏.‏ ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ‏}‏ جواب ل ‏{‏أَقْسَمُواْ‏}‏ على الحكاية‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ تُقْسِمُواْ‏}‏ على الكذب‏.‏ ‏{‏طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة‏.‏ أو ‏{‏طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ أمثل منها أو لتكن طاعة، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ فلا يخفى عليه سرائركم‏.‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم‏.‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ‏}‏ أي على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏مَا حُمّلَ‏}‏ من التبليغ‏.‏ ‏{‏وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ‏}‏ من الامتثال‏.‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ‏}‏ في حكمه‏.‏ ‏{‏تَهْتَدُواْ‏}‏ إلى الحق‏.‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ التبليغ الموضح لما كلفتم به، وقد أدى وإنما بقي ‏{‏مَّا حُمّلْتُمْ‏}‏ فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم‏.‏

‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض‏}‏ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم‏.‏ ‏{‏كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسروا الألف‏.‏ ‏{‏وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ‏}‏ وهو الإِسلام بالتقوية والتثبيت‏.‏ ‏{‏وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ‏}‏ من الأعداء، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف‏.‏ ‏{‏أَمْناً‏}‏ منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب، وفيه دليل على صحة النبوة للإِخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإِجماع‏.‏

وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة‏.‏ ‏{‏يَعْبُدُونَنِي‏}‏ حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن‏.‏ ‏{‏لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً‏}‏ حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين‏.‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ ومن ارتد أو كفر هذه النعمة‏.‏ ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ بعد الوعد أو حصول الخلافة‏.‏ ‏{‏فأولئك هُمُ الفاسقون‏}‏ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ كما علق به الهدى‏.‏

‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض‏}‏ لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم، و‏{‏فِي الأرض‏}‏ صلة ‏{‏مُعجِزِينَ‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحداً معجزاً لله، فيكون ‏{‏مُعْجِزِينَ فِي الأرض‏}‏ مفعوليه أو لا يحسبونهم ‏{‏مُعَجِزِينَ‏}‏ فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل‏:‏ الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإِعجاز‏.‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ المصير‏}‏ المأوى الذي يصيرون إليه‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإِلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإِعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت‏.‏ وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاماً وقت الظهيرة ليدعو عمر، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله‏.‏ ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ في اليوم والليلة مرة‏.‏ ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ومحله النصب بدلاً من ثلاث مرات أو الرفع خبراً لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر‏.‏

‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم‏}‏ أي ثيابكم لليقظة للقيلولة‏.‏ ‏{‏مّنَ الظهيرة‏}‏ بيان للحين‏.‏ ‏{‏وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف‏.‏ ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ‏}‏ أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور‏.‏ وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي ‏{‏ثلاث‏}‏ بالنصب بدلاً من ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين‏.‏ ‏{‏طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات‏.‏ ‏{‏بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التبيين‏.‏ ‏{‏يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ أي الأحكام‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوالكم‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما شرع لكم‏.‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته، وجوابه أن المراد بهم المعهودين الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم‏.‏ ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان‏.‏

‏{‏والقواعد مِنَ النساء‏}‏ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل‏.‏ ‏{‏اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً‏}‏ لا يطمعن فيه لكبرهن‏.‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ‏}‏ أي الثياب الظاهرة كالجلباب، والفاء فيه لأن اللام في ‏{‏القواعد‏}‏ بمعنى اللاتي أو لوصفها بها‏.‏ ‏{‏غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ‏}‏ غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏ وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم‏:‏ سفينة بارجة لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه خص بتكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال‏.‏ ‏{‏وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ‏}‏ من الوضع لأنه أبعد من التهمة‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لمقالتهن للرجال‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بمقصودهن‏.‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذراً من استقذارهم، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب، أو من إجابة من دعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلاً عليهم، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإِسلام ثم نسخ بنحو قوله

‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ‏}‏ وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده‏.‏ ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام «أنت ومالك لأبيك» وقوله عليه الصلاة والسلام «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه» ‏{‏أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ‏}‏ وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظاً‏.‏ وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ ‏{‏مفتاحه‏}‏‏.‏ ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم، أو كان ذلك في أول الإِسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم‏.‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏ مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده‏.‏ أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه‏.‏ أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً‏}‏ من هذه البيوت ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة‏.‏ ‏{‏تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله‏}‏ ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم‏.‏ ‏{‏مباركة‏}‏ لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب‏.‏ ‏{‏طَيِّبَةً‏}‏ تطيب بها نفس المستمع‏.‏ وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي «متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ كرره ثلاثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي الحق والخير في الأمور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ أي الكاملون في الإِيمان‏.‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ من صميم قلوبهم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ «أمر جميع»‏.‏ ‏{‏لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَئذِنُوهُ‏}‏ يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن لهم، واعتباره في كمال الإِيمان لأنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل والفرار، ولتعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ولذلك أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذهاب بغير إذن ليس كذلك‏.‏ ‏{‏فَإِذَا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏}‏ ما يعرض لهم من المهام، وفيه أيضاً مبالغة وتضييق الأمر‏.‏ ‏{‏فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ تفويض للأمر إلى رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه فكأن المعنى‏:‏ فأْذن لمن علمت أن له عذراً‏.‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ الله‏}‏ بعد الإِذن فإن الاستئذان ولو لعذر قصور لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لفرطات العباد‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بالتيسير عليهم‏.‏

‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً‏}‏ لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً في جواز الإِعراض والمساهلة في الإِجابة والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته عليه الصلاة والسلام واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة‏.‏ وقيل لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضاً باسمه ورفع الصوت به والنداء من وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله، ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت، أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض فلا تبالوا بسخطه فإن دعاءه موجب، أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب‏.‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ‏}‏ ينسلون قليلاً قليلاً من الجماعة ونظير تسلل تدرج وتدخل‏.‏ ‏{‏لِوَاذاً‏}‏ يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه كأنه تابعه وانتصابه على الحال وقرئ بالفتح‏.‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتاً خلاف سمته، و‏{‏عَنْ‏}‏ لتضمنه معنى الإِعراض أو يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه، وحذف المفعول لأن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى، فإن الأمر له في الحقيقة أو للرسول فإنه المقصود بالذكر‏.‏ ‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ محنة في الدنيا‏.‏

‏{‏أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة واستدل به على أن الأمر للوجوب فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإن الأمر بالحذر عنه يدل على خشية المشروط بقيام المقتضي له وذلك يستلزم الوجوب‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السموات والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أيها المكلفون من المخالفة والموافقة والنفاق والإِخلاص، وإنما أكد علمه ب ‏{‏قَدْ‏}‏ لتأكيد الوعيد‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء، ويجوز أن يكون الخطاب أيضاً مخصوصاً بهم على طريق الإِلتفات، وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم‏.‏ ‏{‏فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ من سوء الأعمال بالتوبيخ والمجازاة عليه‏.‏ ‏{‏والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ لا يخفى عليه خافية‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي»‏.‏

سورة الفرقان

مكية وآيها سبع وسبعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ‏}‏ تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وترتيبه عن إنزاله ‏{‏الفرقان‏}‏ لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه‏.‏ وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و‏{‏الفرقان‏}‏ مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولاً بعضه عن بعض في الإِنزال، وقرئ «على عباده» وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا اليكم آيات‏}‏ أو الأنبياء على أن ‏{‏الفرقان‏}‏ اسم جنس للكتب السماوية‏.‏ ‏{‏لِيَكُونَ‏}‏ العبد أو الفرقان‏.‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ للجن والإِنس‏.‏ ‏{‏نَذِيراً‏}‏ منذراً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإِنكار، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى المعلوم وجعلت صلة‏.‏

‏{‏الذي لَهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ بدل من الأول أو مدح مرفوع أو منصوب‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً‏}‏ كزعم النصارى‏.‏ ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك‏}‏ كقول الثنوية أثبت له الملك مطلقاً ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ثم نبه على ما يدل عليه فقال‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ أحدثه إحداثاً مراعى فيه التقدير حسب إرادته كخلقه الإِنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة‏.‏ ‏{‏فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ فقدره وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإِنسان للإِدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك، أو ‏{‏فَقَدَّرَهُ‏}‏ للبقاء إلى أجل مسمى‏.‏ وقد يطلق الخلق لمجرد الإِيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق فيكون المعنى وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده حتى لا يكون متفاوتاً‏.‏

‏{‏واتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً‏}‏ لما تضمن الكلام إثبات التوحيد والنبوة أخذ في الرد على المخالفين فيهما‏.‏ ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ لأن عبدتهم ينحتونهم ويصورونهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ‏}‏ ولا يستطيعون‏.‏ ‏{‏لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً‏}‏ دفع ضر‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَفْعاً‏}‏ ولا جلب نفع‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً‏}‏ ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أولاً وبعثه ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الأُلوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها، وفيه تنبيه على أن الإِله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ‏}‏ كذب مصروف عن وجهه‏.‏ ‏{‏افتراه‏}‏ اختلقه‏.‏ ‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ‏}‏ أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله

‏{‏إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً‏}‏ بجعل الكلام المعجز ‏{‏إِفك‏}‏ مختلقاً متلقفاً من اليهود‏.‏ ‏{‏وَزُوراً‏}‏ بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ أساطير الأولين‏}‏ ما سطره المتقدمون‏.‏ ‏{‏اكتتبها‏}‏ كتبها لنفسه أو استكتبها، وقرئ على البناء للمفعول لأنه أمي وأصله‏:‏ اكتتبها كاتب له، فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل وبني الفعل للضمير فاستتر فيه‏.‏ ‏{‏فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب أو لتكتب‏.‏

‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض‏}‏ لأنه أعجزكم عن آخِركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه ‏{‏أساطير الأولين‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صباً‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول‏}‏ ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم‏.‏ ‏{‏يَأْكُلُ الطعام‏}‏ كما نأكل‏.‏ ‏{‏وَيَمْشِي فِي الاسواق‏}‏ لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا، وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية كما أشار إليه تعالى بقوله ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ لنعلم صدقه بتصديق الملك‏.‏

‏{‏أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ‏}‏ فيستظهر به ويستغني عن تحصيل المعاش‏.‏ ‏{‏أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ هذا على سبيل التنزل أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان كما للدهاقين والمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون والضمير للكفار‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الظالمون‏}‏ وضع ‏{‏الظالمون‏}‏ موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوه‏.‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ‏}‏ ما تتبعون‏.‏ ‏{‏إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ سحر فغلب على عقله، وقيل ذا سحر وهو الرئة أي بشراً لا ملكاً‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال‏}‏ أي قالوا فيك الأقوال الشاذة واخترعوا لك الأحوال النادرة‏.‏ ‏{‏فُضَلُّواْ‏}‏ عن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي والمميز بينه وبين المتنبي فخبطوا خبط عشواء‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ إلى القدح في نبوتك أو إلى الرشد والهدى‏.‏

‏{‏تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏خَيْراً مّن ذلك‏}‏ مما قالوا لكن أخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى‏.‏ ‏{‏جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ بدل من ‏{‏خَيْرًا‏}‏‏.‏ ‏{‏وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏ عطف على محل الجزاء، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع كقوله‏:‏

وَإِنَّ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُ

ويجوز أن يكون استئنافاً بوعد ما يكون له في الآخرة، وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوية وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فطعنوا فيك لفقرك، أو فلذلك كذبوك لا لما تمحلوا من المطاعن الفاسدة، أو فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ويصدقونك بما وعد الله لك في الآخرة، أو فلا تعجب من تكذيبهم إياك فإنه أعجب منه‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً‏}‏ ناراً شديدة الاستعار، وقيل هو اسم لجهنم فيكون صرفه باعتبار المكان‏.‏

‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ‏}‏ إِذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه السلام «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم‏.‏ ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه‏.‏ ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً‏}‏ صوت تغيظ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر‏.‏ وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف‏.‏

‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً‏}‏ في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالاً‏.‏ ‏{‏ضَيِّقاً‏}‏ لزيادة العذاب فإن الكرب مع الضيق والروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها كعرض السموات والأرض‏.‏ ‏{‏مُقْرَّنِينَ‏}‏ قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل‏.‏ ‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ‏}‏ في ذلك المكان‏.‏ ‏{‏ثُبُوراً‏}‏ هلاكاً أي يتمنون الهلاك وينادونه فيقولون تعال يا ثبوراه فهذا حينك‏.‏

‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا‏}‏ أي يقال لهم ذلك‏.‏ ‏{‏وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً‏}‏ لأن عذابكم أنواع كثيرة كل نوع منها ثبور لشدته، أو لأنه يتجدد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أو لأنه لا ينقطع فهو في كل وقت ثبور‏.‏

‏{‏قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون‏}‏ الإِشارة إلى العذاب والاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع مع التهكم أو إلى ال ‏{‏كَنْزٌ‏}‏ أو ال ‏{‏جَنَّةُ‏}‏، والراجع إلى الموصول محذوف وإضافة ال ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ إلى ‏{‏الخلد‏}‏ للمدح أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنات الدنيا‏.‏ ‏{‏كَانَتْ لَهُمْ‏}‏ في علم الله أو اللوح، أو لأن ما وعده الله تعالى في تحققه كالواقع‏.‏ ‏{‏جَزَاءً‏}‏ على أعمالهم بالوعد‏.‏ ‏{‏وَمَصِيراً‏}‏ ينقلبون إليه، ولا يمنع كونها جزاء لهم أن يتفضل بها على غيرهم برضاهم مع جواز أن يراد بالمتقين من يتقي الكفر والتكذيب لأنهم في مقابلتهم‏.‏

‏{‏لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ‏}‏ ما يشاؤونه من النعيم، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة‏.‏

‏{‏خالدين‏}‏ حال من أحد ضمائرهم‏.‏ ‏{‏كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً‏}‏ الضمير في ‏{‏كَانَ‏}‏ ل ‏{‏مَا يَشَآءُونَ‏}‏ والوعد الموعود أي‏:‏ كان ذلك موعداً حقيقاً بأن يسأل ويطلب، أو مسؤولاً سأله الناس في دعائهم ‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ أو الملائكة بقولهم ‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ‏}‏ وما في ‏{‏على‏}‏ من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإِلجاء إلى الإِنجاز، فإن تعلق الإِرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإِنجاز‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ للجزاء، وقرئ بكسر الشين وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعم كل معبود سواه تعالى، واستعمال ‏{‏مَا‏}‏ إما لأن وضعه أعم ولذلك يطلق لكل شبح يرى ولا يعرف، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيراً أو اعتباراً لغلبة عبادها، أو يخص الملائكة وعزيراً والمسيح بقرينة السؤال والجواب، أو الأصنام ينطقها الله أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي والأرجل‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ أي للمعبودين وهو على تلوين الخطاب، وقرأ ابن عامر بالنون‏.‏ ‏{‏أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل‏}‏ لإِخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح، وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة، وأصله ‏{‏أأضللتم‏}‏ أو ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏ فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال وهو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهه فيه وإلا لما توجه العتاب، وحذف صلة الضل مبالغة‏.‏

‏{‏قَالُواْ سبحانك‏}‏ تعجباً مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده، أو تنزيهاً لله تعالى عن الأنداد‏.‏ ‏{‏مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا‏}‏ ما يصح لنا‏.‏ ‏{‏أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحداً دونك، وقرئ ‏{‏نَّتَّخِذَ‏}‏ على البناء للمفعول من اتخذ الذي له مفعولان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً‏}‏ ومفعوله الثاني ‏{‏مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض وعلى الأول مزيدة لتأكيد النفي‏.‏ ‏{‏ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ‏}‏ بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات‏.‏ ‏{‏حتى نَسُواْ الذكر‏}‏ حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك والتدبر في آياتك، وهو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه، وهو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ في قضائك‏.‏ ‏{‏قَوْماً بُوراً‏}‏ هالكين مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ‏.‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ‏}‏ التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإِلزام على حذف القول والمعنى فقد كذبكم المعبودون‏.‏ ‏{‏بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا والباء بمعنى في، أو مع المجرور بدل من الضمير، وعن ابن كثير بالياء أي‏:‏ ‏{‏كَذَّبُوكُمْ‏}‏ بقولهم ‏{‏سبحانك مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أي المعبودون وقرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين‏.‏ ‏{‏صَرْفاً‏}‏ دفعاً للعذاب عنكم، وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَصْراً‏}‏ يعينكم عليه‏.‏ ‏{‏وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ‏}‏ أيها المكلفون‏.‏ ‏{‏نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً‏}‏ هي النار والشرط وإن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقاً، وهو التوبة والإِحباط بالطاعة إجماعاً وبالعفو عندنا‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق‏}‏ أي إلا رسلاً إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ ويجوز أن تكون حالاً اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقولهم ‏{‏مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق‏}‏ وقرئ ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ أي تمشيهم حوائجهم أو الناس‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ‏}‏ أيها الناس‏.‏ ‏{‏لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه، وفيه دليل على القضاء والقدر‏.‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ علة للجعل والمعنى ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ أو حث على الصبر على ما افتتنوا به‏.‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلى به وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ‏(‏21‏)‏ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏22‏)‏ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ‏(‏23‏)‏ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ‏(‏24‏)‏ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ‏(‏25‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ‏(‏26‏)‏ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‏(‏27‏)‏ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‏(‏28‏)‏ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ‏(‏30‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ‏(‏33‏)‏ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ‏}‏ لا يأملون‏.‏ ‏{‏لِقَاءَنَا‏}‏ بالخير لكفرهم بالبعث، أولا يخافون ‏{‏لِقَاءنَا‏}‏ بالشر على لغة تهامة، وأصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ هلا‏.‏ ‏{‏أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة‏}‏ فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل فيكونوا رسلاً إلينا‏.‏ ‏{‏أَوْ نرى رَبَّنَا‏}‏ فيأمرنا بتصديقه واتباعه‏.‏ ‏{‏لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك‏.‏ ‏{‏وَعَتَوْا‏}‏ وتجاوزوا الحد في الظلم‏.‏ ‏{‏عُتُوّاً كَبِيراً‏}‏ بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله‏:‏

وَجَارَةُ جَسَّاسٍ أَبأنا بِنَابِهَا *** كُلَيْباً عَلَتْ نَاب كُلَيْب بوَاؤهَا

‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة‏}‏ ملائكة الموت أو العذاب، و‏{‏يَوْمَ‏}‏ نصب باذكر أو بما دل عليه‏.‏ ‏{‏لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها، و‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ تكرير أو خبر و‏{‏لّلْمُجْرِمِينَ‏}‏ تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام، أو ل ‏{‏بُشْرىً‏}‏ إن قدرت منونة غير مبنية مع ‏{‏لا‏}‏ فإنها لا تعمل، ولل ‏{‏مُّجْرِمِينَ‏}‏ إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان ولا يلزم عن نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر، وإما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلاً على جرمهم وإشعاراً بما هو المانع للبشرى والموجب لما يقابلها‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً‏}‏ عطف على المدلول أي ويقول الكفرة حينئذ، هذه الكلمة استعاذة وطلباً من الله تعالى أن يمنع لقاءهم وهي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه، أو تقولها الملائكة بمعنى حراماً عليكم الجنة أو البشرى‏.‏ وقرئ ‏{‏حجْراً‏}‏ بالضم وأصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك وعمرك ولذلك لا يتصرف فيه ولا يظهر ناصبه، ووصفه بمحجوراً للتأكيد كقولهم‏:‏ موت مائت‏.‏

‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً‏}‏ أي وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره، وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها وأبطلها ولم يبق لها أثراً، وال ‏{‏هَبَاء‏}‏ غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار، و‏{‏مَّنثُوراً‏}‏ صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى‏:‏

‏{‏كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ ‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً‏}‏ مكاناً يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس والتحادث‏.‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏ مكاناً يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزاً له من مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالباً إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور وغيره من التحاسين، ويحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة، والتفضيل إما لإِرادة الزيادة مطلقاً أو بالإِضافة إلى ما للمترفين في الدنيا‏.‏ روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء‏}‏ أصله تتشقق فحذفت التاء، وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب‏.‏ ‏{‏بالغمام‏}‏ بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام المذكور في قوله ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة‏}‏ ‏{‏وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً‏}‏ في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد، وقرأ ابن كثير «وننزل» وقرئ و«نزلت» «وأنزل» ‏{‏وَنُزِّلَ الملائكة‏}‏ بحذف نون الكلمة‏.‏

‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن‏}‏ الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ ولا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و‏{‏للرحمن‏}‏ صلته، أو تبيين و‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ مفعول ‏{‏الملك‏}‏ لا ‏{‏الحق‏}‏ لأنه متأخر أو صفته والخبر ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أو ‏{‏للرحمن‏}‏‏.‏ ‏{‏وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً‏}‏ شديداً‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ‏}‏ من فرط الحسرة، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما، والمراد ب ‏{‏الظالم‏}‏ الجنس‏.‏ وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال‏:‏ لا، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر ‏"‏ فأمر علياً فقتله وطعن أبَياً بِأُحُدْ في المبارزة فرجع إلى مكة ومات‏.‏ ‏{‏يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً‏}‏ طريقاً إلى النجاة أو طريقاً واحداً وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة‏.‏

‏{‏يَا وَيْلَتَى‏}‏ وقرئ بالياء على الأصل‏.‏ ‏{‏لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً‏}‏ يعني من أضله وفلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس‏.‏

‏{‏لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر‏}‏ عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة‏.‏ ‏{‏بَعْدَ إِذْ جَاءنِي‏}‏ وتمكنت منه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الشيطان‏}‏ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول، أو كل من تشيطن من جن وإنس‏.‏ ‏{‏للإنسان خَذُولاً‏}‏ يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه، فعول من الخذلان‏.‏

‏{‏وَقَالَ الرسول‏}‏ محمد يومئذ أو في الدنيا بثاً إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي‏}‏ قريشاً‏.‏ ‏{‏اتخذوا هذا القرءان مَهْجُوراً‏}‏ بأن تركوه وصدوا عنه، وعنه عليه الصلاة والسلام «من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول‏:‏ يا رب عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه» أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين، فيكون أصله ‏{‏مَهْجُوراً‏}‏ فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول، وفيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين‏}‏ كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا، وفيه دليل على أنه خالق الشر، والعدو يحتمل الواحد والجمع‏.‏ ‏{‏وكفى بِرَبّكَ هَادِياً‏}‏ إلى طريق قهرهم‏.‏ ‏{‏وَنَصِيراً‏}‏ لك عليهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان‏}‏ أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله‏:‏ ‏{‏جُمْلَةً واحدة‏}‏ دفعة واحدة كالكتب الثلاثة، وهو اعتراض لا طائل تحته لأن الإِعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ أي كذلك أنزلناه مفرقاً فتقوى بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه، لأن حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى حيث كان عليه الصلاة والسلام أمياً وكانوا يكتبون، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه، ولعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئاً فشيئاً، ولأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة وغوص في المعنى، ولأنه إذا نزل منجماً وهو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه، ولأنه إذا نزل به جبريل حالاً بعد حال يثبت به فؤاده ومنها معرفة الناسخ والمنسوخ ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على البلاغة، وكذلك صفة مصدر محذوف والإِشارة إلى إنزاله مفرقاً فإنه مدلول عليه بقوله ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة‏}‏ ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالاً والإِشارة إلى الكتب السابقة، واللام على الوجهين متعلق بمحذوف‏.‏ ‏{‏وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً‏}‏ وقرأناه عليك شيئاً بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفليجها‏.‏

‏{‏وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ‏}‏ سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ جئناك بالحق‏}‏ الدامغ له في جوابه‏.‏ ‏{‏وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً‏}‏ وبما هو أحسن بياناً أو معنى من سؤالهم، أو ‏{‏لا يَأْتُونَكَ‏}‏ بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفاً لما بعثت له‏.‏

‏{‏الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ‏}‏ أي مقلوبين أو مسحوبين عليها، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف، صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه» وهو ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏ والمفضل عليه هو الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانًا وأضل سبيلاً، وقيل إنه متصل بقوله ‏{‏أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً‏}‏ ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 46‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ‏(‏35‏)‏ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ‏(‏36‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ‏(‏38‏)‏ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ‏(‏40‏)‏ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وَزِيراً‏}‏ يوازره في الدعوة وإعلاء الكلمة ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه‏.‏

‏{‏فَقُلْنَا اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ‏}‏ يعني فرعون وقومه‏.‏ ‏{‏بئاياتنا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً‏}‏ أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم والتعقيب باعتبار الحكم لا الوقوع، وقرئ «فدمرتهم» «فدمراهم فدمرانهم» على التأكيد بالنون الثقيلة‏.‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل‏}‏ كذبوا نوحاً ومن قبله، أو نوحاً وحده ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقاً كالبراهمة‏.‏ ‏{‏أغرقناهم‏}‏ بالطوفان‏.‏ ‏{‏وجعلناهم‏}‏ وجعلنا إغراقهم أو قصتهم‏.‏ ‏{‏لِلنَّاسِ ءَايَةً‏}‏ عبرة‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للظالمين عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ يحتمل التعميم والتخصيص فيكون وضعاً للظاهر موضع المضمر تظليماً لهم‏.‏

‏{‏وَعَاداً وَثَمُودَ‏}‏ عطف على هم في ‏{‏جعلناهم‏}‏ أو على «الظالمين» لأن المعنى ووعدنا الظالمين، وقرأ حمزة وحفص «وثمود» على تأويل القبيلة‏.‏ ‏{‏وأصحاب الرس‏}‏ قوم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيباً فكذبوه، فبينما هم حول الرس وهي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم‏.‏ وقيل ‏{‏الرس‏}‏ قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا‏.‏ وقيل الأخدود وقيل بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون، وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، ولذلك سميت مغرباً فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا‏.‏ وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر‏.‏ ‏{‏وَقُرُوناً‏}‏ وأهل أعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون‏.‏ ‏{‏بَيْنَ ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر‏.‏ ‏{‏كَثِيراً‏}‏ لا يعلمها إلا الله‏.‏

‏{‏وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال‏}‏ بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين إنذاراً وإعذاراً فلما أصروا أهلكوا كما قال‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً‏}‏ فتتناه تفتيتاً ومنه التبر لفتات الذهب والفضة، ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ الأول منصوب بما دل عليه ‏{‏ضَرَبْنَا‏}‏ كأنذرنا والثاني ب ‏{‏تَبَّرْنَا‏}‏ لأنه فارغ‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْا‏}‏ يعني قريشاً مروا مراراً في متاجرهم إلى الشام‏.‏ ‏{‏عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء‏}‏ يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة‏.‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا‏}‏ في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله‏.‏ ‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً‏}‏ بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشوراً ولا عاقبة فلذلك لم ينظروا ولم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون نشوراً كما يأمله المؤمنون طمعاً في الثواب، أو لا يخافونه على اللغة التهامية‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً‏}‏ ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءاً به‏.‏ ‏{‏أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏ محكي بعد قول مضمر والإِشارة للاستحقار، وإخراج بعث الله رسولاً في معرض التسليم يجعله صلة وهم على غاية الإِنكار واستهزاء ولولاه لقالوا أهذا الذي زعم أنه بعثه الله رسولاً‏.‏

‏{‏إِن‏}‏ إنه‏.‏ ‏{‏كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا‏}‏ ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج ومعجزات‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا‏}‏ ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها و‏{‏لَوْلاَ‏}‏ في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ‏.‏ ‏{‏وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏ كالجواب لقولهم ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيُضِلُّنَا‏}‏ فإنه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له، وفيه وعيد ودلالة على أنه لا يهملهم وإن أمهلهم‏.‏

‏{‏أَرَءَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ولا يبصر دليلاً، وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به‏.‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً‏}‏ حفيظاً تمنعه عن الشرك والمعاصي وحاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب والثاني للإِنكار‏.‏

‏{‏أَمْ تَحْسَبُ‏}‏ بل أتحسب‏.‏ ‏{‏أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ‏}‏ فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإِضراب عنه إليه، وتخصيص الأكثر لأنه كان منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكباراً وخوفاً على الرئاسة‏.‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام‏}‏ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏ من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار، ولأنها إن لم تعتقد حقاً ولم تكتسب خيراً لم تعتقد باطلاً ولم تكتسب شراً، بخلاف هؤلاء ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ‏}‏ ألم تنظر إلى صنعه‏.‏ ‏{‏كَيْفَ مَدَّ الظل‏}‏ كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم إشعاراً بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل وهو فيما بين طلوع الفجر والشمس وهو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع وتسد النظر وشعاع الشمس‏:‏ يسخن الجو ويبهر البصر، ولذلك وصف به الجنة فقال

‏{‏وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ‏}‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً‏}‏ ثابتاً من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً‏}‏ فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام، أو لا يوجد ولا يتفاوت إلا بسبب حركتها‏.‏

‏{‏ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا‏}‏ أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن أحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الذي هو في معنى الكف‏.‏ ‏{‏قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ قليلاً قليلاً حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون ويتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها، وقيل ‏{‏مَدَّ الظل‏}‏ لما بنى السماء بلا نير، ودحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها ولو شاء لجعله ثابتاً على تلك الحالة، ثم خلق الشمس عليه دليلاً، أي مسلطاً عليه مستتبعاً إياه كما يستتبع الدليل المدلول، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها ويتحول بتحولها، ‏{‏ثُمَّ قبضناه إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ شيئاً فشيئاً إلى أن تنتهي غاية نقصانه، أو ‏{‏قَبْضاً‏}‏ سهلاً عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة والمظل عليها‏.‏